الخميس، 9 أكتوبر 2025

العفريت القزم : الحقيقة وراء الأسطورة

العفريت القزم في الارجنتين
إعداد :  كمال غزال

في ربيع عام 2008، اجتاح مقطع فيديو قصير مواقع الإنترنت، يظهر فيه كائن غريب صغير الحجم، يعتمر قبعة مدببة ويمشي بطريقة جانبية في شارع مظلم في الأرجنتين ، ظهر الخبر أولاً في صحيفة إل تربيونو  El Tribuno المحلية، لكن ما لبث أن انتشر عالمياً بعدما تبنته صحف بريطانية مثل ذا صن The Sun، ووسائل إعلام أمريكية منها فوكس نيوز ، هكذا وُلدت واحدة من أكثر الأساطير الحضرية المثيرة في مطلع القرن الحادي والعشرين: «عفريت الأرجنتين» أو كما عُرف لاحقاً في الإعلام الغربي بـ Creepy Gnome.

فهل كان ما ظهر في ذلك الفيديو كائناً خارقاً بالفعل ؟ أم خدعة محكمة حاكت المخاوف الجماعية من المجهول ؟

في هذا التحقيق، نستعرض الحقائق والادعاءات والتفسيرات، من أرشيف الصحافة الأرجنتينية إلى الإعلام الغربي، لنكشف قصة الأسطورة من بدايتها حتى تحولها إلى أيقونة رقمية عالمية.


ولادة الأسطورة

الواقعة تعود إلى مدينة جنرال غويميس (General Guemes) في إقليم سالطا شمال الأرجنتين ، بحسب الشهود، كان مجموعة من المراهقين يسهرون ليلًا حين سمعوا أصواتاً غريبة خلفهم، فالتقط أحدهم هاتفه وصور المشهد.

يُظهر المقطع مخلوقاً قصير القامة، يتحرك جانبياً بخطوات سريعة، قبل أن يصرخ الفتية ويهربوا، لينتهي التسجيل فجأة.

الصحافة المحلية وصفت الكائن بأنه «قزم غريب يرتدي قبعة مخروطية»، وأشارت إلى أن السكان شعروا بالذعر وفضّلوا عدم الخروج ليلًا.

لكن بعد أيام، التقطت وسائل إعلام أجنبية القصة -  فانتشر الفيديو عبر يوتيوب وتجاوز المليون مشاهدة في غضون أسبوعين ،لتتحول  البلدة الصغيرة إلى بؤرة اهتمام عالمي، وتدفق للفرق الإعلامية الساعية وراءالحقيقة، فيما صار اسم «عفريت سالطا» يتردد في صفحات الجرائد الأوروبية والأمريكية.

الصورة التي أطلقت العاصفة

الصورة التي انتشرت عالمياً (والتي نُعيد نشرها هنا بإطار تحقيقي) مأخوذة من لقطة ثابتة من الفيديو الأصلي ، ظلّ صغير يتحرك في شارع ترابي عند الفجر.

رافقتها رسوم كاريكاتيرية رسمها أحد سكان البلدة بناءً على أوصاف الشهود، تُظهر كائناً صغيراً ملتحياً بوجه شرس وقبعة مدببة أشبه بقرن.

هذه الصورة، المأخوذة من الفيديو والرسم معاً، أصبحت الرمز البصري للأسطورة، وتكررت في كل المقالات التي تناولت الموضوع بين 2008 و2011.

موجة ثانية من المشاهدات... ثم الفوضى

في أواخر 2008، عاد المشهد مجدداً مع فيديو ثانٍ من المنطقة نفسها ، حيث زعم مصوّروه إن الكائن ظهر مجدداً قرب ملعب كرة قدم، يصدر أصواتاً حادة ويقفز بين الأشجار.

الخبر تكرر في  موقع ذا صن The Sun تحت عنوان:

“Creepy Gnome returns: terrifying dwarf haunts town again”
(العفريت القزم يعود: القزم المرعب يطارد البلدة مجدداً).

خلال أشهر قليلة، انتشرت مقاطع جديدة من بلدان أخرى ، بعضها من أمريكا الوسطى، وبعضها الآخر من أوروبا الشرقية  تحمل نفس المشهد تقريباً: كائن قصير، يتحرك جانبياً، في شارع ليلي.

ومعها، تكررت نفس التفسيرات... ونفس الخوف.

القصة كما نقلتها الصحافة العربية

بعد أن خمدت القصة عالمياً، عادت فجأة إلى واجهة الأخبار في مارس 2011 عبر تقرير نشرته جريدة الرأي الكويتية على موقعها نقلاً عن وكالات ومواقع أجنبية، يفيد بأن «عفريتاً قزماً» أعاد الظهور مجدداً في بلدة أرجنتينية تُدعى سانشو كورال (Sancho Corral) بعد غياب دام نحو عامين.

ووفقًا للتقرير، فقد هاجم الكائن عدداً من المارة ليلاً، واعتدى عليهم بالضرب، مما دفع "الشرطة المحلية" إلى إعداد رسم كاريكاتيري يصف ملامحه: قامة قصيرة، قبعة مدببة، ولحية كثيفة طويلة ، رغم عدم وجود أي تقارير شرطة عن هذا.

ذكر الخبر أن صبياً يبلغ الرابعة عشرة من عمره كان من بين الضحايا، وأن أحد سكان البلدة تمكن من تصوير مقطع جديد للعفريت ونشره على الإنترنت حيث شاهده الملايين حول العالم.

الصحيفة نقلت أيضاً أن السلطات تلقت سلسلة بلاغات من سكان البلدة عن اعتداءات مماثلة، وأن الشرطة أصدرت تحذيراً عاماً خوفاً من تكرار الهجمات.

أعاد هذا التقرير إشعال الأسطورة بعد أن خبت، واعتبره البعض «عودة العفريت الأرجنتيني»، بينما رأى آخرون أنه ربما امتداد للظاهرة الفيروسية نفسها التي انطلقت عام 2008، لكن في ثوب إعلامي جديد.

لم تُعرف هوية مصدر الفيديو المذكور في تقرير «الراي»، ولم تُعثر أي صحيفة أرجنتينية على دليل يؤكد وقوع تلك الحوادث بالفعل، مما يرجح أن القصة عام 2011 كانت إعادة تدوير لأسطورة الإنترنت بصياغة مختلفة.


تحليل علمي

عند التحقق من المصادر الأرجنتينية الأصلية (خاصة El Tribuno وDiario Panorama) لم يُعثر على أي بلاغ رسمي من الشرطة أو توثيق لحوادث اعتداء كما زعم البعض.

كما أن المواقع الأرجنتينية الإخبارية الكبرى لم تتابع القصة بعد 2008، ما يشير إلى أن القضية تلاشت محلياً بينما استمرت عالمياً بفعل الإعلام الغربي.

تحقيق موقع سنوبس  Snopes الأمريكي عام 2008 خلص إلى أن القصة «غير مثبتة وغالباً مختلقة»، مؤكداً أن الفيديو يحتمل أن يكون مزحة نفذها المراهقون مستخدمين شخصاً قصير القامة أو دمية صغيرة.

في المقابل، فسر آخرون المقطع على أنه مزيج من سوء الإضاءة واهتزاز الكاميرا، ما جعل ظلاً بشرياً يبدو كمخلوق مشوه.

وبين هذه التفسيرات، وجد البعض فيها فرصة للسخرية، فظهرت ميمات «الغوبلن الراقص» وألعاب رقمية تستوحي صورته كقزم شرير.


الأثر الثقافي: من الأسطورة إلى الذاكرة الرقمية

رغم انكشاف زيف الحكاية على الأرجح، فإنها لم تمت.

فبعد أكثر من عقد على الحادثة، ما زالت الفيديوهات الأصلية تُعاد نشرها، وتظهر في قوائم «أغرب اللقطات الغامضة» على YouTube وReddit.

كما أعاد مستخدمون في 2020 و2023 توظيف المشهد في تطبيق TikTok ضمن وسم: #RealGnome، مرفقين به تعليقاً ساخراً:

“They are real… the gnomes are coming.”
(إنهم حقيقيون… الأقزام قادمون).

تحوّل «عفريت الأرجنتين» إلى رمز للثقافة الرقمية للغرابة - نموذج على كيف تنتقل الشائعات من مقطع هاتف غامض إلى أسطورة عالمية تتحدى النسيان.

بين العفريت والذكاء الاصطناعي

مع التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح من الممكن اليوم إنشاء مقاطع فيديو أو صور عالية الدقة تحاكي الواقع بدقة مذهلة.

لم يعد صانع الأسطورة الحديثة بحاجة إلى لقطة ضبابية أو صورة مهتزة ليقنع الجمهور بوجود كائن خارق، بل يمكنه الآن توليد مخلوق كامل الحركة، بظلال وإضاءة واقعية، خلال دقائق قليلة فقط.

هذا التحول يجعل من الصعب -  حتى على المتخصصين -  التمييز بين ما هو توثيق حقيقي وما هو نتاج خوارزميات الذكاء الاصطناعي. وهكذا، قد نشهد في السنوات المقبلة موجة جديدة من الظواهر المصوّرة التي تبدو حقيقية تماماً، لكنها في جوهرها امتداد رقمي لخداع العين والعقل معاً.

إن ما بدأ قبل عقدين بمقطع ضبابي لعفريت في شارع أرجنتيني، قد يعود غداً بصورة أكثر إتقاناً وواقعية... لكن أكثر تضليلاً أيضاً.


وفي الختام ، تبقى قصة «العفريت القزم» بين الحقيقة والأسطورة مثالاً على قوة الخيال الجمعي في عصر الإنترنت.

فمن شارع ترابي في سالطا إلى شاشات العالم، يكفي مقطع ضبابي مدته بضع ثوان ليصنع مخلوقاً أسطورياً يتغذى على خوف الإنسان من المجهول.

قد لا يكون هذا العفريت حقيقياً، لكن أثره الثقافي بلا شك واقعي جداً -  درسٌ في كيف تصنع الشبكات الرقمية أساطيرها الحديثة.


شاهد الفيديو


نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .