![]() |
إعداد : كمال غزال |
ولعل أبرز تلك الحوادث ما عُرف باسم تجلي السيدة العذراء في الزيتون عام 1968، التي رسخت نفسها في الوعي الشعبي والديني كواحدة من أكثر الظواهر انتشاراً وإثارة للنقاش.
حادثة الزيتون 1968: بداية الأسطورة
في 2 أبريل 1968، شاهد آلاف المصريين مشهداً غير مألوف فوق قباب كنيسة العذراء بالزيتون ، بدأت القصة عندما لمح حارس ليلي يُدعى عبد العزيز علي جسماً نورانياً متألقاً فوق القبة، فصرخ: "نور فوق القبة!" ، تجمع العمال والمارة، ليشهدوا فتاة متشحة بالبياض جاثية فوق القبة، يحيط بها سرب من الحمام الأبيض، وصورة سماوية تزداد وضوحاً كلما حاول الناس اختبارها بإطفاء الأنوار.
الظاهرة تكررت ليالٍ متعاقبة، أحياناً لدقائق وأحياناً لساعتين كاملتين. وسرعان ما تحوّلت الكنيسة إلى مقصد عشرات الآلاف من الناس، بينهم الرئيس جمال عبد الناصر نفسه ، ونشرت الصحف المصرية صوراً وأخباراً عن الحدث، فيما أعلن البابا كيرلس السادس رسمياً أنه تجلٍّ حقيقي للسيدة مريم العذراء.
المشككون والجدل الإعلامي
غير أن الظاهرة لم تمر دون اعتراض ، الشيخ محمد الغزالي مع الشيخ محمد أبو زهرة وغيرهما قصدوا المكان للتحقق، لكنهم لم يروا شيئاً. وحين حاولوا نشر شهاداتهم واجهوا منعاً من الرقابة. بعضهم ذهب إلى أن الحكومة المصرية آنذاك ربما استغلت الظاهرة لإلهاء الناس وسط الأزمات السياسية وجعل المنطقة مزاراً سياحياً يدر المال.
هذا التضارب فتح باباً واسعاً للشكوك:
لماذا لم يظهر التجلي أمام الجميع بنفس الوضوح ؟
لماذا ارتبط ظهوره بظروف جوية معينة ؟
ولماذا لعبت الصحف الرسمية دوراً في تضخيم الخبر وتأكيده دون تمحيص ؟
التفسير العلمي: "نيران سانت إلمو"
الباحث المصري محمد جمال الدين الفندي قدّم تفسيراً علمياً للظاهرة، مؤكداً أنها قد تكون شكلاً من ظاهرة نيران سانت إلمو (St. Elmo’s Fire)، المعروفة في الفيزياء الجوية ، وهي توهجات ضوئية تنتج عن تفريغ كهربائي بطيء عند نقاط مرتفعة ومدببة مثل صواري السفن أو أبراج الكنائس أثناء حالات اضطراب جوي.
- تتخذ هذه النيران هيئة هالات ضوئية متغيرة الشكل واللون.
- قد تصاحبها أصوات طقطقة أو أزيز كهربائي.
- يكثر ظهورها أثناء الطقس البارد أو بعد العواصف.
خدعت في الماضي الطيارين والبحّارة الذين ظنوها نيراناً أو أشباحاً مضيئة.
وبالعودة إلى أرشيف الطقس وقت حادثة الزيتون، فقد شهدت مصر بالفعل موجة برد قارس سبقت ظهور التجليات، مما وفّر الظروف المثالية لهذه الظاهرة الطبيعية.
ما بين الإيمان والعلم
ما بين المؤمنين والمعترضين، بقيت تجليات الزيتون حالة فريدة لأنها:
- شوهدت من قبل آلاف الأشخاص في وقت واحد.
- حظيت بـ تغطية إعلامية رسمية غير مسبوقة.
- دخلت في الذاكرة الدينية المصرية باعتبارها "علامة سماوية".
إلا أن غياب أدلة علمية قاطعة، وعدم تسجيل الظاهرة بأجهزة دقيقة وقتها، جعلها معلقة بين المعجزة والتفسير الفيزيائي.
حوادث أخرى : كنيسة الوراق
لم تتوقف ظاهرة التجليات النورانية المنسوبة للعذراء مريم عند حادثة الزيتون 1968، بل تكررت في أماكن مختلفة من مصر. ففي 12 ديسمبر 2009، شهدت منطقة الوراق بالجيزة تجمعاً كبيراً من الناس لمشاهدة ما اعتبروه تجلياً جديداً للعذراء فوق منارة كنيسة العذراء هناك. كما انتشرت مقاطع مصورة لما بدا كضوء باهر أو فلاشات متقطعة في السماء، رافقتها شهادات عن رؤية "حمام نوراني" وحديث عن معجزات شفاء لحاضرين.
غير أن الجدل تجدد بقوة. فقد انقسمت الآراء بين:
- المؤمنين بالمعجزة، الذين اعتبروا أن السماء ترسل رسالة دعم ومعونة روحية للأقباط، خصوصاً في أوقات الأزمات.
- الباحثين العلميين، الذين ربطوا الظاهرة بظواهر كهربائية طبيعية مثل نيران سانت إلمو، أو بوسائل حديثة مثل أجهزة الليزر.
- المثقفين الأقباط أنفسهم، الذين اعتبر بعضهم - مثل الدكتور رفيق حبيب - أن الأمر يعكس حاجة الجماعة القبطية إلى "شعور بالدعم الروحي والمعنوي" في مواجهة أزمات اجتماعية وسياسية، وأن الإيمان بالظهور أقرب إلى التعبير الرمزي عن هذه الحاجة أكثر منه حقيقة مادية.
اللافت أن هذه الحوادث تتكرر غالباً في فترات أزمات اجتماعية أو توترات طائفية، ما يجعلها بالنسبة للبعض رسالة سماوية بالنجدة، بينما يراها آخرون أداة معنوية توظفها الكنيسة الأرثوذكسية لتعزيز التماسك الداخلي، في حين تسخر منها الطوائف المسيحية الأخرى وخصوصاً الإنجيلية التي وصفت حادثة الوراق بأنها "خرافة" أو "خداع بالليزر".
من هنا تتضح جدلية الظاهرة: فهي عند فريق تجليات مقدسة لا تحتاج إلى برهان، وعند فريق آخر انفعالات جماعية أو تفسيرات طبيعية وتقنية، فيما يراها باحثون انعكاساً لأزمات مجتمع يبحث عن المعنى والطمأنينة في أوقات الشدة.
تجليات مشابهة حول العالم
حادثتي الزيتون والوراق لم تكونا الأولى ولا الأخيرة:
- في البرتغال عام 1917، شهد آلاف المؤمنين ما عُرف بـ"معجزة الشمس" في فاطيما، حيث رأى الناس الشمس تدور وتصدر ألواناً غريبة.
- في إيطاليا وإسبانيا، وثقت حوادث مشابهة لتجليات نورانية قرب الأديرة والكنائس.
- وفي العالم الإسلامي، نُقل عن بعض الزائرين رؤى نورانية في أماكن مقدسة مثل قبة الصخرة أو حول الأضرحة.
هذه الأمثلة تعكس أن الظواهر البصرية الغامضة غالباً ما تُفسَّر وفق الخلفية الدينية والثقافية لكل مجتمع.
وفي الختام ، يظل تجلي السيدة العذراء أيقونة للإيمان الشعبي يقابله عند آخرين ظاهرة طبيعية مضخّمة ، قد يراها البعض رسالة روحية، فيما يراها آخرون انعكاساً لصراع الإنسان الدائم بين العقلانية والروحانية.
وبينما لا يملك العلم تفسيراً قاطعاً لكل تفاصيل ما رُوي، فإن الحقيقة المؤكدة أن هذه الحوادث تُظهر قوة الجماعة في صناعة المعنى، حيث تتحول ومضة ضوء في السماء إلى معجزة خالدة في الوجدان.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .