الثلاثاء، 6 مايو 2025

أبرز الخدع عبر التاريخ المسيحي: بين الأسطورة والواقع

إعداد : كمال غزال

عبر التاريخ، لم تقتصر الخدع على الحيل البسيطة أو الأكاذيب الصغيرة؛ بل امتدت إلى أعمق مناطق العقل البشري وأكثرها حساسية: الإيمان. كان الدين دائماً مجالاً خصباً للخدع، سواء بدافع الربح المادي أو النفوذ السياسي أو حتى إثارة الإعجاب والدهشة.

في قلب هذه الديناميكية تقف المسيحية، التي باعتبارها واحدة من أكبر الديانات في العالم، شكّلت ساحة مفتوحة للادعاءات والقصص التي تأرجحت بين الحقيقة والخيال. 

 غالباً ما تكون أهداف هذه الخدع متعددة: بعضها كان بدافع المال والاحتيال، حيث يستغل المزورون توق الناس لرؤية أدلة حسية على شخصيات مقدسة أو أحداث عظيمة. وبعضها الآخر بدافع السيطرة الفكرية أو التأثير السياسي، إذ تُخلق القصص والأساطير لتدعيم شرعية سلطة دينية أو جماعة معينة. 

وفي حالات أخرى، نجد أن الدافع قد يكون شخصياً: شهرة الكاتب أو صاحب الاكتشاف المزعوم، أو حتى إشباع هوسه الشخصي بفكرة ما. ما يجمع هذه الخدع كلها هو قدرتها على الانتشار وسط جمهور عطِش للمعنى، وحتى بعد انكشاف زيفها، فإن بعضها يواصل العيش في المخيلة الشعبية، ويصبح جزءًا من الروايات المتداولة، وربما حتى الإيمان الشخصي لبعض الأفراد.

في هذا المقال، نستعرض أبرز الخدع المرتبطة بالمسيحية عبر العصور، الغرض هنا ليس السخرية أو النيل من الإيمان، بل تسليط الضوء على هذه الظواهر من زاوية نقدية وتاريخية، لفهم كيف ولماذا نشأت، وكيف تمكنت من أسر عقول الناس عبر الأجيال.


1- نبوءة البابوات Prophecy Of Popes

تُعد نبوءة البابوات واحدة من أكثر المواضيع إثارة للجدل في المسيحية، وقد اكتسبت مؤخراً زخماً إعلامياً كبيراً بعد وفاة البابا فرانسيس، حيث بدأ البعض يتساءل إن كانت هذه النبوءات تتحقق بالفعل. تعود القصة إلى القرن الثاني عشر عندما نسبَت تقاليد كاثوليكية نبوءات إلى القديس ملاخي الأيرلندي، وتضمنت هذه النبوءات 112 عبارة قصيرة وغامضة مكتوبة باللاتينية، يُقال إنها تتنبأ بهوية وأفعال كل بابا من البابا سلستين الثاني (1143–1144) وصولاً إلى البابا الأخير، الذي يوصف بأنه سيشهد نهاية الكنيسة الكاثوليكية وسقوط روما.

في القرن السادس عشر، قام الراهب البينديكتي أرنولد دي وايون بنشر النبوءات لأول مرة، رغم مرور أكثر من 400 عام على وفاة القديس ملاخي، وهو ما أثار شكوك الباحثين الذين يعتقدون أنها كُتبت لاحقًا لتأكيد مصداقيتها عبر مطابقة تفاصيلها مع باباوات تلك الفترة. مع ذلك، استمرت الأسطورة، وتحوّلت إلى أداة شائعة بين المؤمنين والمهتمين بنهاية الأزمنة. وتزداد شعبيتها كلما توفي بابا جديد، إذ يُعقد كثير من الجدل حول ما إذا كان التالي هو الأخير. حتى اليوم، لم تُثبت أي علاقة مؤكدة بين النصوص القديمة والأحداث الفعلية، لكنها تظل واحدة من أكثر الخدع أو الأساطير التي تُحيي النقاشات الدينية واللاهوتية.

2- النار المقدسة 

يُعتبر طقس "النار المقدسة" الذي يُقام سنوياً في كنيسة القيامة بالقدس من أكثر الأحداث الدينية إثارة وإجلالاً لدى ملايين المسيحيين الأرثوذكس حول العالم. يحدث هذا الطقس في "سبت النور" وهو اليوم الذي يسبق عيد الفصح الأرثوذكسي، حيث يدخل بطريرك القدس الأرثوذكسي قبر المسيح وهو يحمل شموعاً غير مشتعلة، ويخرج منها بعد لحظات وهي مضاءة، في مشهد يُعتبر معجزة إلهية تتكرر سنويًا منذ قرون.

بحسب المعتقد الديني، ينبعث الضوء الأزرق من داخل القبر المقدس نفسه، من حيث يُعتقد أن المسيح دُفن، ثم يتحول هذا الضوء إلى نار عادية تُشعل شموع الكهنة والمؤمنين. يُقال إن النار في اللحظات الأولى لا تحرق الجلد، وهو ما يراه المؤمنون دليلًا إضافيًا على قدسيتها.

مع ذلك، شكك الباحثون والعلماء في هذه الظاهرة، مشيرين إلى احتمالية استخدام الفوسفور الأبيض أو غيره من المواد الكيميائية التي تشتعل تلقائياً عند ملامستها للهواء. بعض التحقيقات الصحفية حاولت الكشف عن تفاصيل ما يجري داخل القبر، لكن حتى الآن، لم تُقدّم أدلة قاطعة تنفي أو تثبت المعجزة. يظل المشهد مهيباً ومؤثراً لملايين المؤمنين الذين يتدفقون إلى القدس من أنحاء العالم، ولا يزال الحدث يُبث عبر الشاشات ليجذب اهتمام المتدينين وغير المتدينين على حد سواء، ليبقى محل إلهام وإثارة في آن معاً.


3- الحياة المجهولة ليسوع المسيح


في كتابه عام 1894، ادعى الصحفي الروسي نيكولاس نوتوفيتش أنه وجد في دير هيميس بالتبت مخطوطات تسجل حياة المسيح خلال سنواته المفقودة، مشيراً إلى أن يسوع درس تعاليم البوذية والهندوسية. رغم الجاذبية التي أثارتها القصة لدى البعض، لم يُعثر أبداً على أي مخطوطة، ورفض علماء اللاهوت والمؤرخون صحة هذه الرواية باعتبارها محاولة تجارية لجذب الأنظار.


4- خدعة سفينة نوح

في التسعينيات، أعلن جورج جمال، وهو مهاجر من أصل لبناني يعيش في كاليفورنيا، أنه عثر على بقايا سفينة نوح على جبل أرارات في تركيا. ظهرت القصة في برنامج تلفزيوني خاص بعنوان "الاكتشاف المذهل لسفينة نوح"، حيث عُرضت قطعة خشب قيل إنها جزء من السفينة الأصلية. لكن بعد التحقيق، تبين أن جمال لم يزر تركيا قط، وأن "الاكتشاف" كان جزءًا من خدعة مدروسة لكشف مدى سهولة انخداع وسائل الإعلام والجمهور بقصص تبدو دينية وعاطفية. رغم ذلك، لا تزال فكرة العثور على سفينة نوح تثير خيال الكثيرين وتُعد موضوعًا للبحث والنقاش حتى اليوم، خاصة مع وجود حملات أثرية ودينية مستمرة تبحث عن أدلة للطوفان المذكور في التوراة والقرآن.


5- عملاق كارديف Cardiff Giant


في عام 1869، اكتشف عمال في مزرعة بنيويورك "رجلاً متحجراً" طوله 3 أمتار. سرعان ما انتشر الخبر بين الناس الذين رأوا فيه دليلاً على وجود العمالقة المذكورين في سفر التكوين. حتى بعض علماء الدين والخبراء انخدعوا، قبل أن يُكشف أن رجل الأعمال جورج هال هو من صنع التمثال لإثبات سهولة خداع الناس. لاحقًا عُرض التمثال في المعارض لكسب المال، وما زال موجودًا اليوم في متحف بنيويورك كرمز للخداع الناجح.


6- جمعية أخوية صهيون السرية Priory of Sion

أسسها بيير بلانتار عام 1956، وزعم أنها امتداد لمجموعة أسطورية تأسست زمن الحروب الصليبية لحماية سر سلالة المسيح ومريم المجدلية. اكتسبت شهرتها بعد رواية "شفرة دافنشي"، لكنها فُضحت لاحقاً بعد اكتشاف وثائق مزيفة ومحاولات بلانتار للترويج لنفسه عبر أساطير مختلقة.


7- صندوق عظام يعقوب 


أثار اكتشاف هذا الصندوق عام 2002 ضجة كبيرة عالمياً لأنه حمل نقشاً باللغة الآرامية يقول:  " يعقوب ابن يوسف أخو يسوع ". اعتبر البعض أن هذا النقش يوفر أول دليل أثري مباشر على وجود يسوع التاريخي، وهو ما جعل الصندوق يُعرض أمام جماهير ووسائل إعلام من حول العالم. ومع ذلك، أطلقت السلطات الإسرائيلية تحقيقا مكثفا كشف أن النقش نفسه أُضيف مؤخرا باستخدام أدوات حديثة، بينما الصندوق بحد ذاته قديم وأثري. لاحقا، وُجهت اتهامات بالتزوير لتاجر الآثار الإسرائيلي أوديد غولان، لكنها انتهت ببراءته بسبب نقص الأدلة الجنائية القطعية، ما جعل القضية واحدة من أكثر قضايا التزوير الأثري إثارة للجدل في العصر الحديث.


8- أواسب Oahspe : كتاب مقدس جديد


" أواسب " هو كتاب غريب نشره طبيب أسنان أمريكي يُدعى جون بالو نيوبرو في عام 1882. ادعى نيوبرو أنه كتبه تحت تأثير الكتابة التلقائية (السيكوغرافيا) ، أي أن الأرواح أو الكائنات السماوية وجهته مباشرة خلال الكتابة. جاء الكتاب بعنوان طويل ومثير: " أواسب: كتاب مقدس جديد بكلمات جوهوفي ومبعوثي ملائكته، تاريخ مقدس للسماء والأرض خلال " الأربعة وعشرين ألف سنة الماضية". يغطي الكتاب موضوعات من خلق الإنسان والكواكب، مروراً بآلهة سماوية وأعمالهم، وانتهاءً بمجموعة من الوصايا الجديدة للبشرية.

يحمل الكتاب طابعاً يمزج بين الميتافيزيقا، علم الكونيات، والمعتقدات الروحية، لكنه مليء بالأخطاء الفعلية والتنبؤات التي لم تتحقق أبداً، مثل توقعه نهاية الحضارة الغربية وصعود قوى سماوية جديدة. رغم أنه لم يُقبل قط من قبل التيارات المسيحية التقليدية، إلا أنه وجد صدى لدى بعض الحركات الروحانية في أمريكا خلال أواخر القرن التاسع عشر. حتى اليوم، يعتبر "أواسب" مثالًا على كيفية محاولة البعض إنشاء نصوص دينية بديلة مستندة إلى الإلهام الشخصي أو المزعوم.


9- كتاب ياشر Book of Jasher

يُذكر كتاب ياشر في عدة مواضع من العهد القديم كمرجع تاريخي ضائع، وهو ما أثار فضول الكثيرين عبر القرون ودفع بعض المزورين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لتأليف كتب زائفة يدّعون أنها النسخة الأصلية. حاولت هذه النسخ المفتعلة سد الفجوة التاريخية عبر تقديم سرديات مليئة بالقصص والبطولات القديمة، لكنها لم تصمد أمام الفحص الأكاديمي. فقد تبين أن النصوص مليئة بالأخطاء الزمنية والتاريخية والأسلوبية التي لا تتوافق مع السياق الأصلي للكتاب المقدس، مما جعلها تُعتبر تزويرًا واضحًا. مع ذلك، لا يزال ذكر اسم "كتاب ياشر" يثير النقاشات بين الباحثين والهواة الذين يأملون يومًا ما في العثور على أثر حقيقي لهذا الكتاب المفقود.


10- إنجيل العصر المائي Aquarian Gospel


نُشر عام 1908 على يد الواعظ الأمريكي ليفي هـ. داولينغ، ويُعد من أكثر الأعمال إثارة للجدل بين النصوص الروحية الحديثة. في هذا الكتاب، ادعى داولينغ أنه استقى نصوصه عبر حالة وعي متقدمة أثناء الفجر، حين كان عقله متصلاً بسجلات أكاشية كونية، أي مستودع روحي يُقال إنه يحفظ كل معرفة الكون. جمع الكتاب بين المسيحية، الفلسفة الشرقية، والأفكار الفلكية (الأكوارية)، وقدم يسوع بوصفه معلمًا عالمياً تجول في الهند والتبت وبلاد فارس ليتعلم تعاليم الحكمة قبل أن يبدأ رسالته في فلسطين. رغم انتشاره بين حركات العصر الجديد، لم يُعترف به من أي كنيسة مسيحية رئيسية، بل جرى اعتباره إعادة تأليف صوفية لا تمتلك أساساً تاريخياً.


11- مونيتا سيكريتا Monita Secreta

وثيقة منسوبة لرئيس الرهبنة اليسوعية، زُعم أنها تحوي تعليمات سرية لتعزيز نفوذ الرهبان سياسياً واقتصادياً. لاحقاً، تبيّن أن المؤلف كان راهباً بولندياً ساخطاً طُرد من الرهبنة وكتب النص لتشويه سمعتها.


12- ماريا مونك

نشرت ماريا مونك كتاباً صادماً في 1836 وصفت فيه التعذيب والقتل في أديرة كندية. رغم صدمة الرأي العام، أظهرت التحقيقات تناقضات وشهادات كاذبة في قصتها، وأصبحت مثالًا شهيرًا للدعاية المعادية للكاثوليكية في القرن التاسع عشر.


13- رسالة بينان Letter of Benan

زعم إرنست فون دير بلانيتز عام 1910 أنه ترجم رسالة قديمة من بردية قبطية تعود للقرن الخامس تحكي عن حياة المسيح. لم يُعثر على أي دليل مادي يدعمها، ما جعلها تختفي من التداول الأكاديمي وتُعتبر خدعة منسية.


14- رسالة لينتولوس Letter of Lentulus

رسالة مجهولة المصدر تعود للقرن الخامس عشر، تُنسب إلى حاكم يهودا قبل المسيح، تصف مظهر يسوع بالتفصيل. أثرت بشكل كبير على تصوير المسيح في الفن الغربي، لكنها تعتبر أدبيًا مجرد اختلاق أدبي دون سند تاريخي.


15- إنجيل يوسيفوس

في 1927، اخترع الكاتب الإيطالي لويجي موتشيا مخطوطة مزيفة زعم أنها كتبها المؤرخ اليهودي يوسيفوس وتتناول حياة المسيح. استُخدمت الخدعة للترويج لكتبه، لكنها سقطت بسرعة بعد تدقيق الباحثين.


16- الفصل المفقود من سفر أعمال الرسل (مخطوطة سونيني)

نشر عام 1871 نص يزعم أنه الفصل 29 المفقود من سفر أعمال الرسل، ويحكي رحلة بولس إلى بريطانيا. أثارت القصة فضول كثيرين ممن أرادوا رؤية المسيحية المبكرة تصل إلى الغرب، لكن غياب أي أثر للمخطوطة اليونانية الأصلية جعل معظم الباحثين يجمعون على أنها خدعة أدبية أُلفت لدعم تيارات مسيحية معينة في بريطانيا.


17- ديونيسيوس الأريوباغي المزيف

ظهرت أعمال فلسفية ولاهوتية عُرفت باسم "جسد الأريوباغي"، كتبها شخص مجهول ادعى أنه ديونيسيوس الأريوباغي المذكور في أعمال الرسل. أثرت هذه الأعمال بعمق في التصوف المسيحي واللاهوت، لكنها من الناحية التاريخية لم تُكتب إلا بعد قرون من وفاة ديونيسيوس الأصلي، ما يجعلها واحدة من أبرز عمليات الانتحال في الفكر المسيحي.


تنويه

هذا المقال يهدف إلى استعراض وقائع تاريخية مثيرة للجدل ومراجعتها من منظور نقدي. لا يقصد المقال الإساءة إلى أي معتقد ديني أو التشكيك بقيمته الروحية لدى أتباعه. نوصي القارئ بالتعامل مع المادة بنظرة تحليلية وموضوعية.


إقرأ أيضاً ..

- كتاب الشيطان

- اللغز المنقوش وثنائية موسى/الدجال

- العلم يفسر كيفية حدوث طوفان نوح

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .