في قلب محمية باين ريدج Pine Ridge بولاية ساوث داكوتا، يعيش أحد أكثر المجتمعات الأصلية فقراً وتهميشاً في الولايات المتحدة. هنا، حيث تمتزج صرخات الماضي مع أوجاع الحاضر، انتشرت أسطورة غريبة تحمل اسم "سام السائر" Walking Sam، شخصية غامضة توصف بأنها طويلة القامة ونحيلة بشكل غير طبيعي، بلا ملامح واضحة، وترتدي معطفاً داكناً وقبعة طويلة.
يقال إنه يهمس في آذان المراهقين، يغريهم بالرحيل عن هذا العالم، ويقنعهم بأن الحياة لا قيمة لها، وأن الوحدة التي يشعر بها يمكن أن تزول إذا انضموا إليه في عالم آخر.
لكن، ما حقيقة هذه الأسطورة ؟ وهل هي مجرد خرافة ولدت على الإنترنت، أم أنها تجسيد لمأساة اجتماعية ونفسية أعمق؟
جذور غامضة
من المرجح أن سام السائر Walking Sam هو امتداد حديث لقصص أقدم تداولتها قبائل لاكوتا وداكوتا.
في موروث هذه القبائل، هناك حكايات عن كائنات روحية تعرف بـ "الرجال العصويين" وهي أرواح تتجول في الغابات وتثير الرعب بين الناس ، كما تذكر بعض المصادر كائناً يُدعى الرجل الكبير Big Man، وصفه الحكماء القدامى بروح حامية، أشبه بحارس للأرض، وليس شريراً .
مع مرور الوقت، يبدو أن هذه القصص تداخلت مع تأثيرات الثقافة الرقمية الحديثة، خصوصاً بعد ظهور أسطورة الرجل العصوي سلندرمان Slender Man الشهيرة عام 2009. هكذا بدأ يتشكل Walking Sam بشكله الحالي: شخصية طويلة، بلا فم أو ملامح، تجول ليلاً، وتُستخدم كرمز للخوف واليأس.
إذن، الأسطورة ليست تراثاً قبلياً أصيلاً بقدر ما هي خليط من حكايات قديمة وصور حديثة ولدت على الإنترنت، ثم تبنتها المخيلة الشعبية لتفسر ما لا يمكن تفسيره .
موجة الانتحارات... حين يتحول الخوف إلى كارثة
ما جعل سام السائر Walking Sam يتصدر عناوين الأخبار لم يكن مظهره الغريب، بل علاقته المزعومة بموجة انتحارات مروعة بين المراهقين في محمية باين ريدج.
بين ديسمبر 2014 ومارس 2015، سجلت السلطات 103 محاولة انتحار بين الشباب، نجح منها تسعة في مجتمع لا يتجاوز عدد سكانه 40 ألفاً ! ، كما عُثر على حبال معلقة على الأشجار في مناطق منعزلة، وكأنها تُركت عمداً كدعوات للموت ، سرعان ما بدأت الشائعات تنتشر بأن سام السائر "Walking Sam" هو من يقف وراء ذلك.
يُقال إنه يظهر في الليل على أطراف الغابات، يقنع المراهقين بأن العالم أفضل بدونه، وأنه سيمنحهم مكاناً في عالمه إذا تبعوه ، حتى الشرطة ذكرت في تقاريرها أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً خطيراً في نشر رسائل محرضة على الانتحار، مقترنة بذكر هذه الروح الغامضة .
لكن زعماء القبائل حذروا من التركيز على الأسطورة وحدها ، فالمشكلة، كما يقول رئيس قبيلة أوجلالا لاكوتا، تكمن في الفقر المدقع، البطالة، الإدمان، والعزلة الثقافية ، هذه الظروف تولد يأساً جماعياً يجعل أي خرافة تجد أرضاً خصبة للنمو ، وفي هذا السياق أصبح سام السائر Walking Sam أصبح مجرد رمز يختصر مأساة أكبر بكثير .
رمزية الأسطورة: روح الوحدة واليأس
من منظور نفسي، يرى الخبراء أن سام السائر Walking Sam قد يكون انعكاساً لما يُسمى بـ الصدمة التاريخية ، فشعب لاكوتا عانى عبر قرون من التهجير والإبادة الثقافية، وهي جراح تنتقل عبر الأجيال، لتتحول إلى ألم جمعي عميق.
تقول الدكتورة ماريا يلو هاوس بريف هارت، وهي متخصصة في علم نفس السكان الأصليين:
" إن المعاناة التي لم تُحل تتحول إلى طيف يطارد الجماعة. سام السائر Walking Sam ليس كائناً حقيقياً، بل صورة مكثفة لليأس الموروث الذي يسكن أرواح الشباب." ، بهذا المعنى، يصبح Walking Sam بمثابة إسقاط نفسي.
الطيف الذي يراه المراهقون ليس سوى تمثيل لأوجاعهم، ورغبتهم في الهروب من واقع لا يُحتمل ، الأسطورة إذن ليست مجرد قصة رعب، بل لغة رمزية تترجم الألم والصراع الداخلي.
بين الإعلام والإنترنت
انتشار الأسطورة لم يكن ليصل إلى هذا الحد لولا الإنترنت ، حيث بدأ المستخدمون على منصات مثل Reddit وTikTok يتداولون صوراً ورسوماً لشخصية الرجل الطويل، مع قصص تُروى بأسلوب "كريبي باستا".
هذه المنشورات أضفت على الأسطورة طابعاً عالمياً، وربطتها مباشرة بـ الرجل العصوي Slender Man، مما جعلها تنتشر بسرعة البرق بين المراهقين .
لكن الإعلام لعب دوراً مزدوجاً:
من جهة، سلط الضوء على الأزمة وجذب انتباه السلطات إلى حالات الانتحار.
ومن جهة أخرى، ساهم في تضخيم صورة سام السائر Walking Sam حتى أصبح الحديث عنه في بعض التقارير الصحفية يضاهي ذكر الأسباب الحقيقية للأزمة .
مقارنة مع أساطير مشابهة
سام السائر Walking Sam ليس وحيداً في هذا النمط من الأساطير ، فهو قريب جداً من شخصية الرجل العصوي Slender Man، التي وُلدت على الإنترنت عام 2009 وأصبحت محوراً لقضية جنائية شهيرة في ولاية ويسكونسن، حيث طعنت فتاتان صديقتهما بتأثير من الأسطورة ، كلا الشخصيتين طويل القامة، بلا ملامح، وتعملان عبر الإيحاء النفسي والوسوسة .
كما أن هناك تشابهاً مع حكايات عن شخصيات بهيئة تشبه العصي "Stick Indians" في ثقافات أخرى بأمريكا الشمالية، وهي مخلوقات غامضة تعيش في الغابات وتخيف البشر.
هذه التشابهات تشير إلى أن سام السائر Walking Sam ينتمي لعائلة أساطير "الرجل الطويل" التي تظهر في ثقافات متعددة، من البوغي مان Bogeyman الأوروبي إلى قصص "أبو رجل مسلوخة" في الموروث العربي.
لماذا أطلق عليه اسم سام Sam ؟
لا يوجد مصدر موثوق يشرح بشكل قاطع لماذا اختير اسم "سام" Sam، لكن في الثقافة الأمريكية يُستخدم اسم Sam مثلما نستخدم نحن اسم "فلان" أو "زيد" للإشارة إلى شخص مجهول، مثل تعبير "العم سام" "Uncle Sam" الذي يرمز للحكومة الأمريكية، رغم أنه ليس شخصاً حقيقياً ، وبالتالي، يمكن أن يكون اسم " سام" Sam هنا مجرد اختيار عفوي ليعطي للكائن هوية بشرية بسيطة، مما يجعله أكثر رعباً لأنه يبدو مألوفاً.
حين تتجسد الوحدة في صورة طيف
قد لا يكون سام السائر Walking Sam أكثر من خيال، لكنه خيال خطير، سواء أكان كائناً أسطورياً أم مجرد قصة وُلدت على الإنترنت، فقد أصبح رمزاً قوياً يختصر مأساة شعب يعاني ، إنه يذكرنا بأن بعض الوحوش لا تعيش في الغابات، بل في عقولنا وذاكرتنا الجمعية ، ولكي نهزمها علينا أولاً أن نواجه الحقيقة، ونمد يد العون إلى أولئك الذين يقفون على حافة الظلام.
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .