في أواخر عام 2024، بدأت قصة غريبة تتسلل بصمت عبر مواقع التواصل الاجتماعي المصرية. منشور واحد على "فيسبوك" كان كافياً لزرع بذرة الرعب في عقول الآلاف: " هل سمعتم عن عائلة الجنيدي التي اختفت بالكامل من حي مصر القديمة عام 1980 ؟ " مرفقة بتفاصيل دقيقة، وصور مزعومة، ومقاطع صوتية تدّعي رواية شهود عيان.
ثم انفجرت القصة كما تنفجر حرائق الغابات، وتحوّلت إلى "أسطورة حضرية رقمية"، فهل نحن أمام حادثة حقيقية؟ أم خيال سردي محكم التنسيق ؟
قصة تتقن محاكاة الواقع
تبدأ الرواية - كما تم تداولها - في شتاء عام 1980، في شارع شعبي بحي "مصر القديمة"، حين لاحظ الجيران أن منزل عائلة الجنيدي - إحدى أغنى العائلات في المنطقة - بات صامتاً على نحو مريب. لا دخان من المدخنة، لا أصوات أطفال، ولا حراك خلف النوافذ.
بعد أيام من الصمت، قرر السكان إبلاغ الشرطة. دخلت قوة أمنية المنزل لتكتشف مشهداً يثير الريبة أكثر من الطمأنينة: كل شيء على حاله. طعام دافئ على الطاولة، فناجين شاي نصف ممتلئة، أبواب موصدة من الداخل، وملابس نُشرت حديثاً على حبل الغسيل.
لكن العائلة ؟ اختفت بالكامل.
لم يظهر أي أثر لهم، لا في المستشفيات، ولا في السجون، ولا حتى في سجلات السفر. ولم يُعثر على جثث، ولا أدلة عنف أو اقتحام.
من هي "عائلة الجنيدي" ؟
في سياق القصة، كانت العائلة تتألف من حسين الجنيدي (ربّ الأسرة) رجل أعمال يعمل في تجارة الأثاث ، وزوجته وداد: معلمة لغة فرنسية سابقة وثلاثة أطفال: أصغرهم رضيع، وأكبرهم طالب ثانوي.
وتقول الرواية إن العائلة تنحدر من سلالة صوفية قديمة تعود إلى " الشيخ الجنيدي " المدفون في قرية منشأة الجنيدي بالغربية، ما أضفى على القصة بُعداً روحانياً زاد من وقعها على المتلقين.
فرضيات اختفاء العائلة
رغم عدم وجود ملف رسمي للقضية، قدمت القصة المتداولة عدداً من الفرضيات المثيرة:
- القتل بدافع الحسد أو المال: خصوصاً أن العائلة كانت ميسورة ومحبوبة. قيل إن بعض العاملين لديهم تم فصلهم بسبب سرقة محتملة.
- الاختفاء الطوعي: للهرب من صفقة مشبوهة أو تهديد سياسي غير معروف.
- الجن والشعوذة: تقول إحدى الراويات إن الزوجة لجأت إلى "شيخة روحانية" لعلاج أحد أطفالها، وبعدها بدأت "أمور غريبة" تحدث، كظهور كتابات على الجدران، وسماع أصوات في الليل.
- الاختطاف الجماعي: هناك من زعم أن العائلة اختُطفت، وتم تهجيرها إلى جهة غير معلومة بسبب خلاف مع أحد الأجهزة الأمنية أو المخابرات.
ماذا تقول السجلات الرسمية ؟
من خلال البحث في سجلات الصحف المصرية من عام 1979 إلى 1982 من بينها الأهرام، أخبار اليوم، والجمهورية لم نجد أي ذكر رسمي أو تقرير صحفي حول عائلة الجنيدي أو حادثة اختفاء مماثلة. بل لم يُعثر على أي قيد باسم "حسين الجنيدي" أو "وداد" مرتبط بمنطقة مصر القديمة ، كما لم تُسجل وزارة الداخلية المصرية أي بلاغ اختفاء جماعي لعائلة بهذا الاسم في تلك الفترة. بمعنى آخر: لا يوجد أي دليل على أن الحادثة وقعت فعلياً.
مصدر القصة الحقيقي: من الخيال إلى الظاهرة
الحقيقة الأكثر إثارة للدهشة ؟ أن القصة مصدرها عمل قصصي منشور حديثًا ، تبيّن بعد البحث أن القصة ظهرت لأول مرة عبر كاتبة قصص رعب معروفة تدعى شهيرة عبد الحميد، ونُشرت على موقع "أيام نيوز" ضمن سلسلة قصص بعنوان " ظلال القاهرة الغامضة "، الكاتبة استخدمت أسلوب "الواقعية الغامضة"، فدمجت بين أماكن حقيقية (مثل منشأة الجنيدي ومصر القديمة) وتفاصيل سردية مثيرة لتضليل القارئ في عالم مزيّف يبدو حقيقياً.
وقد صرّحت الكاتبة لاحقاً على صفحتها الشخصية بأن القصة : " من وحي الخيال، لكنها مستندة إلى أسلوب القصص الشعبية التي تنشأ من الخوف الجماعي والرغبة في تفسير المجهول."
كيف تحوّلت إلى ظاهرة رقمية ؟
انتشرت القصة بشكل فيروسي بفضل عدة عوامل :
- صيغتها الذكية: كُتبت بلغة تجمع بين الحكي الشعبي والحقائق الظنية.
- دقة التفاصيل: تواريخ، أسماء، أماكن حقيقية، ما منحها مصداقية زائفة.
- السوشال ميديا: قنوات يوتيوب وريلز إنستغرام أعادت صياغة القصة بصوتيات مرعبة وموسيقى مظلمة، مما عزز جوّ الغموض.
- غياب التفكير النقدي: كثير من الجمهور شارك القصة دون التحقق من مصدرها، واعتبرها جزءاً من "الملفات المخفية".
التأثير الثقافي: لماذا نحب هذه القصص ؟
يقول الدكتور ماهر حجازي، أستاذ علم الاجتماع: " القصص مثل عائلة الجنيدي تُشكّل نوعاً من الذاكرة البديلة، تعويضاً عن افتقار الناس إلى قصصهم المرعبة المحلية. في الغرب لديهم ملفات مثل عائلة أميتي فيل، وفي مصر نحتاج إلى أسطورة غامضة محلية... القصص التي تمزج بين الغموض والمجتمع القديم والدين تُنجح سريعًا، خاصة في بيئة عطشى للأساطير المعاصرة."
ما بين الحقيقة والوهم
قصة اختفاء عائلة الجنيدي في مصر القديمة ليست حادثة موثقة. لا توجد دلائل في الأرشيف، ولا سجلات رسمية، ولا شهود. لكن القصة - رغم زيفها - تحوّلت إلى مرآة تعكس حاجة الناس لقصص الرعب المحلية.
ولا ننس قابلية الإنترنت لتضخيم أي سرد ذكي وخطورة الترويج لأساطير دون مصدر، خصوصاً إن ارتدت عباءة الحقيقة ، في النهاية، رغم أت عائلة الجنيدي قد لا يكون لها وجود مطلقاً إلا أنها وجدت مكاناً عميقاً في خيالنا الجماعي.
ملاحظة
في زمن باتت فيه الأساطير تُصنع بـ"منشور" و"تاغ"، علينا أن نعيد تفعيل فضيلة التحقق من المصدر قبل أن نشارك قصة قد تبدو "حقيقية بشكل يخيفنا"، لكنها ليست إلا أدباً متقناً.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .